المحاضرة الخامسة عشرة
لغة الخطاب السياسي: المشكلة والحل
الدكتور وليد عبدالحي
جامعة اليرموك
الخميس 17 محرم 1435هـ- الموافق 21 تشرين الثاني 2013م
مقدمة:
نقطة البدء في تحليل الخطاب- أي خطاب([i])- هي في تحديد ما إذا كانت اللغة أداة محايدة للتواصل بين الأفراد، وشفافة تنم عن مضمونها بيسر (تشومسكي)، أم أنها "مراوغة" لها شموس وظلال (بارث)، ثم هل هي أداة تصف الواقع لا غير(كما يعتقد الوضعيون)؟ أم انها تبدع واقعها الخاص (كما يرى السميائيون وغيرهم)؟ تلك هي جوانب البحث في تحليل الخطاب منذ سك عالم اللسانيات الأمريكي هاريس (Zellig Harris) هذا المفهوم، هادفا كما يقول إلى "فهم لا ما يقول الخطاب، بل كيف يقول بغرض تحقيق وعي أوسع له، من خلال تجاوز الحدود الوصفية للجملة، ثم كشف الرابط بين اللغة والثقافة([ii]).
ولكن إذا انتقلنا لميدان السياسة، هل نبحث السياسة من خلال اللغة (أي أن أداة البحث هي اللغة ومادة البحث هي السياسة)، أم نبحث اللغة من خلال السياسة (وتصبح السياسة أداة البحث بينما اللغة مادته)، ذلك يعني أن المنهج الأول يبحث معنى الحرية في السياسة.. بينما المنهج الثاني كيف يوظف السياسي مفهوم الحرية في لغته؟ الأول يفترض أن للحرية معنى لغويا محددا، لكن السياسي يتلاعب بسياقات المفردة ليحصل على معانٍ مختلفة، والثاني كيف ينبش السياسي اللغة ليصل لمآربه؟ إنها تلك العلاقة بين المتنبي وسيف الدولة؟ فأيهما كان يستغل الآخر؟ فالأول يوظف اللغة ليحصل على السلطة، والثاني يوظفها لتعزيز سلطته.
وإذا كان أطراف لعبة الخطاب ثلاثة: مرسل ومستقبل وبينهما رسالة (نص مكتوب أو مسموع)، فهل هناك توزيع لموازين القوى بين هذه الأطراف؟ ولمن يختل ذلك الميزان؟ ومتى يختل؟ أم أن التوازن في القوى هو القاعدة؟ وكل ذلك يعني أن العلاقة بين الأطراف الثلاثة هي علاقة قوى، وجوهر السياسة هو "علاقات قوى".
ويبدو أن علماء السياسة يَجهدون في تحليلهم للخطاب السياسي نحو استقلالية عن محددات الخطاب الأدبي بحكم لغتهم الخاصة، فكيف نفهم قول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بأن "الدبلوماسي الذكي هو الذي إذا قال نعم فهو يعني ربما، وإذا قال ربما فهو يعني لا، ولكنه لا يقول لا"، وهو ما يجعل الباحث مضطرا للاتكاء على طيف من مناهج التحليل بدءا من التحليل النفسي وانتهاء بالتحليل الكمي، فهل هذا ممكن؟([iii]).
فإذا اخترنا الخطاب السياسي العربي المعاصر مادةً نختبر من خلالها تساؤلاتنا السابقة، فإن علينا بداية أن نحدد معايير تمييز النص السياسي عن النص غير السياسي؟ فهل الإعلان عن عدد الأنواط (المداليات) التي فازت بها دولة معينة في المهرجانات الرياضية الدولية هو نص سياسي أم غير سياسي؟ ثم من هو المرسل هنا للنص؟ هل هم أفراد أم سلطة سياسية أم زعماء أم جهات إعلامية، أم منظمات دولية أم مفكرون؟ وما هي الرسالة السياسية؟ هل تعني الرسالة السياسية شريحة مجتمعية (المتلقي) دون غيرها؟ وعليه- في هذه الحالة- مَن هو المعني بخطاب الديمقراطية أو الحرية أو المساواة أو العدالة أو كل خطابات المنظومات القيمية التاريخية والمعاصرة؟ هل هو فرد معين أم الجمع كله؟ فعلى سبيل المثال، ثمة فارق بيّن بين خطاب حقوق المواطن وحقوق الإنسان، فالثاني يشمل الأول لكن العكس غير صحيح.
لعل كل هذه الأسئلة تستحق منا التأمل العميق من ناحية والرَّوية في الإجابة من ناحية أخرى.
ألوان الخطاب السياسي:
لغايات منهجية بحثية، نشير بداية إلى توزع ألوان الخطاب السياسي على ثلاثة هي:
أ- الخطاب السياسي الأكاديمي التعليمي: ويشمل هذا اللون المؤلفات السياسية التعليمية منهجا ومعلومة، وهي أدبيات تسعى للتعريف بالخطاب منزهة –افتراضا- عن كل غرض، لكن ذلك لا يستبعد تواري الغرض في منهج التعريف، فالقول مثلا إن "كارل ماركس يهودي" يبدو في مظهره قولا تعريفيا، لكنه يواري ظلالا للمتلقي العربي أوسع كثيرا من ظلال المتلقي غير العربي، أو للمتدين بغير اليهودية من المتدين باليهودية... والقول إن الشرق الأوسط الكبير إقليم جغرافي يمتد من موريتانيا إلى غرب باكستان هو تعريف تتوارى فيه آيديولوجيات واستراتيجيات تذيب الهويات القومية لصالح تكريس هويات جيواستراتيجية، ذلك يعني تأكيدا لعبارة أن "كل نظرية من شخص ما ولغرض ما" كما ترى المدرسة النقدية في نظريات العلاقات الدولية.
ب- الخطاب السياسي الجماهيري: وهو نص تحريضي، دعائي يرتبط في الغالب الأعم بالمناسبات والأزمات، ويأخذ شكل الخبر السياسي أو النص المتكامل أو الشعار أو الأغنية أو الطرفة، فلو أخذنا الطرائف السياسية حول زعيمين مثلا كعبد الناصر أو السادات، فإن طرائف الأول ترسم صورة الشخصية "القوية سلبا أو إيجابا"، بينما ترسم للثاني صورة "المراوغ"، وهكذا الشعار والأغنية.. إلخ، وتصبح دلالات الزمان والمكان أكثر جدوى كعوامل منهجية مساعدة في تفكيك الخطاب السياسي، ونجد نفس التحليل للطرائف السياسية في الأزمة السورية التي بدأت منذ 2011، حيث قام الباحث بتحليل الرسوم الكرتونية والتعليقات الواردة على صفحات الإنترنت، وطبق الباحث المنظور السيكولوجي، وميز من خلال الاستناد للمنظور الفرويدي للطرائف "البريئة" والطرائف "المغرضة" ليتعرف صورةَ النظام في الذهن المجتمعي، وكيف تتحول الطرائف إلى أحد أشكال المقاومة([iv]).
ج- الخطاب التنظيري الآيديولوجي: وهو الخطاب الذي يبدعه مفكرون أو تيارات فكرية تتواصل في تشييد هذا البناء عبر مراحل تاريخية، وتروجه وتتبناه المنظمات السياسية كالأحزاب وجماعات الضغط وجماعات المصالح، ويبدو هذا الخطاب كنص مبني بعناية، يبرهن على صحة مقولاته بقدر من المقدمات والنتائج المنطقية من وجهة نظر صاحبه.
إن تعبير أرسطوطاليس بأن "الإنسان حيوان سياسي" يشدني للزعم بأن كل خطاب أو نص هو "خطاب سياسي" في نهاية المطاف، فإذا كان الفعل السياسي هو عمل قصدي لتنظيم الحياة اليومية للمجتمع، فإن ذلك يعني أن تفاصيل السلوك الإنساني هي في جوهرها سياسية، لكن لكل خطاب مركزه أو منظوره (paradigm)، ومركز الخطاب السياسي هو "السلطة"، فإذا انتزعنا هذا المفهوم من الخطاب السياسي انهار هذا الخطاب، ويصبح كالمشجب الذي إذا سقط، سقط معه كل ما عُلّْق عليه.
ويرى أرسطو أن الخطاب السياسي يقوم على ركائز ثلاث هي: أخلاقيات المجتمع (ethos)، محاكاة المشاعر الشعبية (pathos)، والمنطق (logos)، وهو ما يعني التشابك المرهق بين المنطق وقواعد اللغة وبين الصورة التي تركبها الاستعارات اللفظية (metaphor) والمجاز (metonymy) والجناس (analogy) في بنية الخطاب([v]).
ذلك يستدعي عند تحليل الخطاب التوقف عند مفرداته التي تشتمل([vi]):
أ- الإشارة للزمان والمكان (الحدود، الجوار، المياه الإقليمية، الشرق والغرب، والشمال والجنوب..الخ) والمكانة والعلاقة والسياق.
ب- التفاعل الذي يقوم على الترابط مع جهة معينة أو الانفصال عن أخرى.
ج- التفاوض وخداع اللغة (أراض، الأراضي في قرار مجلس الأمن رقم 242 الخاص بالصراع العربي الصهيوني)، أو في مفردات الوصف، وهو ما يفتح باب مشكلة الترجمة سواء في المفاهيم (هناك فرق في المستوى بين الصراع (conflict) والنزاع (dispute)), أو في الاتفاقيات الدولية التي تعد بلغة غير عربية وينص فيها على المرجعية اللغوية عند الاختلاف على المعنى (فاتفاقية كامب ديفيد تنص على أن اللغة الإنجليزية هي المرجعية عند الخلاف على معنى مصطلح معين في الاتفاقية).
د- التنبؤ ومفرداته، وهنا لا نكون بالضرورة معنيين بالدقة التقنية في التنبؤ، بمقدار العناية بالمدلول الآني، (مثل تصريح لافروف حول احتمالات الحرب الأمريكية السورية في 30 -8-2013، إذ قال: "لن ننجر لحرب مع أحد"، فهو هنا يفتح الطريق للولايات المتحدة لاحتمال إعادة النظر في موقفها، لأنه لو قال "سنقف إلى جوار سوريا في الحرب" لزاد الموقف الأمريكي تعقيدا، لأن التراجع الأمريكي سيبدو وكأنه "تحت الضغط الروسي"، وهو ما سيعيق التراجع بدلا من أن ييسره، كما أن التصريح يعني أن روسيا ليست دولة عدوانية، وأنها دولة قوية قد يؤثر موقفها في نتائج الحرب، وقد تعني أنه يتحلل من التزاماته مع سوريا... إلخ.
هـ- التصنيفات المتعارضة: وهي التي تأخذ طابعا ثنائيا مثل: العدو الصديق، الخير الشر، الحرب السلام... إلخ.
و- توزيع الأدوار: إذ ينطوي الخطاب السياسي على توزيع ضمني للأدوار مثل الحكم والمحكوم، السلطة والشعب، الحكومة والمعارضة.
ز- الاستعارات والخيال التي تستهدف التأثير على المتلقي، مثل: (اصطياد بن لادن، طائرة الشبح، القنبلة الذكية.. إلخ).
ح- العاطفة: وهي مصطلحات الشحن الوجداني للمتلقي، مثل حب الوطن، أهلي وعشيرتي، العراق العظيم، التاريخ المجيد.. ذوي القربى... إلخ. وتؤكد دراسة جامعية هذه النقطة من خلال التأكيد أن الخطاب السياسي العربي أكثر نزوعا للعاطفة (Emotive) منه في الخطاب السياسي باللغة الإنجليزية على سبيل المثال، وتدلل الدراسة على ذلك بعدد من المؤشرات التي توصلت لها من خلال مقارنة عدد كبير من النصوص السياسية باللغتين:([vii])
أ- التأكيد على الذاتية في العلاقة بين المتحدث والمستمع أو الكاتب والقارئ.
ب- كثرة الجمل المعترضة التي تؤكد على الترابط بين طرفي العلاقة في الخطاب السياسي.
ج- تكرار الضمائر (ضمير المتكلم والمخاطب..أنا، نحن، أنت، أنتم)، مما يعزز فكرة العلاقة.
د- كثرة مفردات "البلاغة" أو التي لها وقع حاد.
مناهج تحليل الخطاب السياسي:
تتنوع مناهج تحليل الخطاب –بشكل عام- بين تحليل المضمون والتأمل النقدي للمفاهيم من ناحية وبين مناهج الألسنية عبر حقل دلالة النص ومسار البرهنة على صدق المفهوم والدلالة المرجعية للمفهوم في الخطاب من ناحية ثانية، أما في الدراسات الخاصة بتحليل الخطاب السياسي فإن أغلب هذه الدراسات تركزت حول توظيف المناهج التالية (وسنعرض لاحقا لنماذج موجزة منها لتحليل الخطاب السياسي العربي):
1- تحليل المضمون: لعل الوظيفة الرئيسية لتحليل المضمون تتركز في كشف "ما وراء النص" من خلال قياس كمي للمفردات للكشف عن تلك التي تتكرر أكثر من غيرها بغرض تكثيف الدلالة في ذهن المتلقي نتيجة لسيطرة مفهوم معين على المنظومة المعرفية لمنتج الخطاب، وقد يأخذ القياس شكلا آخر، وهو قياس المساحة المعطاة للنص سواء بالمساحة أو الزمن (للخطاب الشفوي).
2- منهج التأمل النقدي (التحليل الإدراكي): ويعني الربط بين بنيتين هما بنية الخطاب السياسي من ناحية وبنية السياق السياسي للخطاب ([viii])، وتتركز عملية الربط هذه بين النص السياسي وبين توزيع القوة (السلطة) في السياق المجتمعي.
ويعد الباحث الهولندي فان ديك رائد منهج تحليل الخطاب الاجتماعي الإدراكي (9 ([ix]، وهو المنهج الذي يقوم على تحليل الأيديولوجية والخطاب السياسي والخطاب الإعلامي من خلال البحث عن صلة الوصل بين بنية القواعد النحوية وبنية المفردات والجمل والسردية (كما تعكسها النظرية البنائية الاجتماعية) من ناحية([x]) والإدراك من ناحية ثانية في دراسة النص، بالإضافة إلى استخدام مناهج تحليل الخطاب، ولعل ذلك أسبغ على منهج فان ديك الطابع التكاملي لمنهجه.
ومع مطلع الثمانينات من القرن الماضي، تحول فان ديك إلى مجال تحليل الخطاب، إذ أولى عنايته للتكوينات الخطابية الإعلامية مع الأخذ في الاعتبار كل المستويات والأبعاد الكلية والجزئية داخل النص، بدءا من المفردات وبنية الجملة والأدوات البلاغية ودلالات الألفاظ والمضمون القيمي للمعلومات التي يسوقها الخطاب، بالإضافة لعنايته بالفكرة المحورية، وبالتنظيم العام للنص، والبنية التخطيطية للنص، والبنية الفرعية.
وقد وظف فان ديك منظومة البنية الفوقية (superstructures) لإدراك عملية إنتاج واستقبال النصوص التي تسكن النصوص الإعلامية التي تطوي بداخلها تلك البنيات الفوقية، ولعل ذلك يفسر عنايته بدراسة الخطاب السياسي والأيديولوجي لكشف الأبعاد المعلنة والمستترة التي يشتمل عليها الخطاب الإعلامي.
ولعل الدراسة لموضوع الديمقراطية في المجتمع المصري تكشف لنا الجانب الإجرائي في هذا المنهج، إذ قامت هذه الدراسة على بحث موضوعها على مستويين؛ الأول مستوى اجتماعي إثنوغرافي يسعى لتعرّف السياق التفاعلي الذي أُنتج فيه الخطاب، بينما ذهب المستوى الثاني إلى المستوى اللغوي المعني بتعرّف الأدوات اللغوية المحددة التي وُظّفت في الخطاب.
ومن خلال تطبيق هذه المنهجية حاول الباحث تعرّف الوظائفِ الاجتماعية والسياسية التي ينجزها الخطاب عن الديمقراطية للفاعلين السياسيين المتنوعين على المسرح السياسي المصري، وما الآثار اللغوية الدالة على هذه الوظائف، التي يستطيع المرء اقتفاء أثرها في عدد من شواهد الخطاب حول الديمقراطية([xi]).
3- مناهج الألسنية: وهي المناهج التي وظفها الباحثون السياسيون على خطى الباحثين في ألوان الخطاب المختلفة مع تكييفها بما يناسب طبيعة الخطاب السياسي من خلال:
أ- حقل دلالة النص: ويتم من خلال الخطوات التالية:
- تحديد المفهوم المركزي في النص.
- تحديد المفاهيم المعارضة للمفهوم المركزي.
- تحديد المفاهيم الموائمة للمفهوم المركزي.
- كشف شبكة العلاقة بين المفاهيم كلها.
ب- مسار البرهنة: تحديد الدلائل التي يقدمها المتحدث أو الكاتب للتأثير على المتلقي، وهنا تتضح أهمية البعد المفاهيمي (Conceptual) في تحليل الخطاب، إذ لدينا مجموعتان من المفاهيم: الأولى المفاهيم التفسيرية (Explanatory) التي تعطينا قدرة أكبر على تفسير أكثر دقة لجوانب رئيسية من ظاهرة معينة، أو اكتشاف مفاهيم تصلح لتفسير قضية معينة كان يعتقد أنها تستعصي على التفسير (فمثلا لعب مفهوم اللاوعي دورا كبيرا في إعادة النظر في بعض المسلمات، وأصبحت الإنثروبولوجيا السياسية فرعا قادرا على تزويد الباحث بآليات تفسير جديدة لظواهر معقدة كالأساطير مثلا).
أما الثانية، فهي المفاهيم ذات الأبعاد الميتافيزيقية (Metaphysical) التي تستهدف نوع الشواهد أو الأدلة التي يقبلها الفرد ليقرر كيفية تقييم شيء بأنه صحيح أو خاطئ، فإذا تحولنا من تفسير التخلف على أنه نتيجة "سوء العلاقة مع الله"، إلى تفسيره على أنه نتيجة خطأ إدارة العلاقة مع الإنسان الآخر، نكون قد تحولنا في مفاهيمنا نحو منظومة مفاهيمية جديدة.
ج- حقل الدلالة المرجعية: حصر الدلالات المرجعية للمفاهيم التي اختيرت لتكون موضوع التحليل (المرجعية قد تكون قيمية أو شخصية أو مكانية أو زمانية.. إلخ).
بعد ذلك، لا بد من الإقرار بأن هناك علاقة بين إنتاج الخطاب السياسي في مجتمع ودرجة تطور المجتمع ومكوناته الثقافية في لحظة ما، كما يميل الجزء الأغلب من الخطاب السياسي نحو "الذرائعية". ويقف الخطاب السياسي ضمن نظام آيديولوجي أكبر، فهو الجزء الظاهر من هذا النظام، بينما يشكل الإجراء (الممارسة) الجزء المستتر. فالأيديولوجيا، تقع فى نقطة بين الواقع الحقيقي المتيقن وبين تصورنا عن الواقع، مما يجعلها مزيجاً من المعلوم والموهوم، ومن المتحرك والساكن، غير أن موازين القوى بين هذه الأبعاد المتفاعلة في دوارق المؤسسة الأيديولوجية تتباين من مرحلة تاريخية لأخرى، فتغلب في مراحل محددة نسبة العناصر المتحركة قياسا للساكنة، كما في المراحل الثورية، ففي وقت التطلع إلى الحكم والسلطة ومواجهة النظام القديم تسود العناصر المعرفية التي تروج الحاجة للتغيير الثوري بادعاء أنها تمثل مصالح المجتمع ككل.. بينما تتزايد غلبة الأبعاد الساكنة في مرحلة بلوغ أصحاب هذه الأيديولوجيا كرسي السلطة، وتبدأ أبعاد "الذرائعية" تنمو تدريجيا للمحافظة على الواقع (ويكفي دراسة خطابات الإخوان المسلمين في كرسي المعارضة، وخطاباتهم في كرسي السلطة في فترة تولي محمد مرسي في مصر للسلطة).
الخطاب السياسي العربي المعاصر:
فرضية البحث:
تقوم فرضيتنا التي سنسعى لبرهنتها على أن "البعد الميتافيزيقي([xii]) القائم على الإدراك القبلي السابق على التجربة ثاوٍ في مفاصل الخطاب السياسي العربي، وهو تعبير عن لاوعي العقل الجمعي، ويأخذ طابع المصالحات الذهنية التي تفتقد إلى العقل الأداتي"([xiii])، نتيجة الارتهان الواعي أو اللاواعي لفكرة "المطلق"، بغض النظر عن المضمون الآيديولوجي للخطاب إسلاميا أو ليبراليا أو قوميا أو ماركسيا، وأن ذلك عائد لسطوة التاريخ على العقل العربي من ناحية والبنية القبلية بكونها نواة صلبة للنسق الاجتماعي ثانيا، والمنحى المثالي في تطلعه القيمي من ناحية ثالثة.
التحليل:
أزعم بداية أن أضعف المساهمات لأدبياتنا العربية الإسلامية كانت في الحقل السياسي الذي يتمحور بشكل أو آخر حول ظاهرة السلطة السياسية ([xiv])، لكن الأمر فيه من الالتباس للمتخصص في هذا الحقل بمقدار ما فيه للعامة، فما هو "السياسي " في الخطاب العربي وما هو "غير السياسي"؟ فمركز الخطاب السياسي هو "السلطة أو القوة" هجوما عليها أو دفاعا عنها من ناحية، وحول مدى "العدالة" في توزيعها من ناحية أخرى، وأغلب دراسات تحليل الخطاب السياسي تنصب على ما ينتجه "السياسيون أو المؤسسات السياسية على المستويات المحلية أو الإقليمية أو الدولية" من نصوص (خطب الزعماء والمواثيق والدساتير والآيديولوجيات، بل ومناهج تحليل الظاهرة السياسية).
والتركيز على الخطاب في مدلوله اللغوي الذي تركز عليه الدراسات الأدبية يجرفنا نحو "الاتصال السياسي"؛ وهو ما يعني "مهارات الإبلاغ والإقناع"، وهنا يصبح المتلقي أيضا طرفا في إنتاج الخطاب. وقد تبين لنا من خلال تحليل نشرة أخبار "البي.بي.سي" (هيئة الإذاعة البريطانية) الخاصة باشتباكات حزب الله مع القوات الإسرائيلية خلال حرب تموز عام 2006، أن الهيئة نقلت 37 بيانا عسكريا من الطرفين، منها 27 بيانا أصدرتها القيادة الإسرائيلية قبل أن يعلن عنها حزب الله و10 بيانات أصدرها حزب الله قبل أن تعلنها إسرائيل، لكن الهيئة نقلت حرفيا هذه البيانات بأمانة تامة مع ملاحظة واحدة تستحق التأمل، وهي أنها رتبت الـ37 بيانا عسكريا بأن تبدأ دائما بالبيان الإسرائيلي ثم بيان حزب الله، رغم أن الحزب أعلن عشر مرات قبل إسرائيل عن الواقعة نفسها.
إن إحدى قواعد الإعلام تقوم على أن الفرد يحاكم المعلومات اللاحقة استنادا للمعلومة السابقة، أي تصبح المعلومة الأولى وكأنها إطار معرفي يقيد تفسيرات ما يلي بعدها، فيصبح قول الناطق الإسرائيلي هو قاعدة النقاش لمعلومات حزب الله، وهنا لا يظهر في البنية المباشرة للغة هذا التسلل لعقل المتلقي، لكنه يتوارى فيه كتواري الأسلاك المعدنية في جدران الإسمنت.
ذلك يعني أن الخطاب سيشمل ما ينتجه "اللاعبون السياسيون" من ناحية و"الفعل السياسي" من ناحية ثانية، وهو ما يعني السياق الذي ورد فيه الخطاب، الأمر الذي يضيف ضرورة دراسة المكان والزمان والقوانين والقيود والأهداف والنوايا.... إلخ.(text and context).
ويرتكز كل خطاب سياسي على أطر نظرية ترتكز بدورها على مفاهيم مترابطة في النص، لتبني صورة ذهنية للمتلقي ترتسم من خلالها ملامح الظاهرة السياسية في مستويين، مستوى الترابط المنطقي في بنية الخطاب، ومستوى القدرة على انتقال مضمون الخطاب إلى حيز التطبيق والفعل، والجسر الواصل بين الترابط المنطقي وحيز التطبيق يعتمد على المتلقي بمقدار اعتماده على منتج الخطاب.
متكئا على ما سبق، سأعمل على قصر جهدي في رصد المفاهيم المركزية في الخطاب السياسي العربي المعاصر، ثم أعمل على رصد مضمون كل مفهوم ومدى اتساقه بين مستخدميه، ومدى ما يصيبه من تغير في المضمون عند انتقاله لحيز التطبيق أو ميدان الفعل.
تحديد المفاهيم المركزية في الخطاب السياسي العربي المعاصر
عند إشارتنا للخطاب السياسي العربي المعاصر، نبدو وكأننا نسلم مسبقا بأن لدينا بنية داخلية لنظام الخطاب السياسي العربي، وهذه البنية تشكل المحدد الذي يميز ذلك الخطاب عن غيره، وهذه البنية تقوم على دعامتين هما شكل الخطاب متمثلا في التراكيب اللغوية بين المفردات التي تفضي إلى مفاهيم تعلو على المفردات المجردة أولا، ومضمون الخطاب ثانيا والذي نبلغه بتحليل عقلي لما يستبطنه التركيب اللغوي عبر توظيف للمفاهيم يساهم في فك ما استعصى على الفهم، الأمر الذي يعني أننا نسلم بوجود علاقة بين الشكل والمضمون.
لكن هذه العلاقة بين الشكل والمضمون ليست علاقة طليقة ومتحررة من الضوابط، إنها تفاعل يتم في دورق المنظومة القيمية التي تشكلت تاريخيا وتضبط العلاقة والدلالة بين المفردات والمفاهيم الثاوية في باطن الخطاب، وهو ما يعني توثيق الصلة بين المفهوم من ناحية، وسياقه التاريخي من ناحية أخرى، لتعرُّف مدى تطوره عبر رحلة الخطاب، وهو ما يؤسس لتحرٍّ دقيق للصلة بين بنية المجتمع وبنية الخطاب معبرا عنها بشبكة المفاهيم التي يتأسس الخطاب عليها، وسأوضح ذلك بمثال واحد، ففي النص المشهور المنسوب لعمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" يرد مفهوم الحرية هنا بمعنى "نقيض الرق" بالمدلول الاجتماعي التاريخي للرق، لكنه لا يتسع بدلالاته لمعنى الحرية كما هو متداول في الخطاب المعاصر، لأن منظومة القيم الحاكمة لمعنى المفاهيم أصابها تغيير عميق، فتشابه اللفظ لا يستوجب تشابه المعنى نظرا لتباين السياق.
والقيم تمثل "مثالية" تسيطر على الحركة، ولكن هذه المثالية ليست إلا نتاج عراك عضوي وعقلي بين الفرد وبيئته الطبيعية والاجتماعية، فالقيم ثمرة التفاعل كما يقول ويندت في النظرية البنائية (constructivism).
كل ذلك يعني أن جيولوجيا الخطاب السياسي (والخطاب بشكل عام) تقوم على صفائح يعلو بعضها بعضا، لكن قاعدة ارتكازها هي البنية الاجتماعية تعلوها منظومة قيمية توجه الحركة وتضفي عليها مستوى شرعيتها، ويتم التعبير عن هذه المنظومة بشبكة مترابطة من المفاهيم التي تستند على مفردات اللغة.
ذلك يعني أن أسس تحديد المفاهيم في الخطاب السياسي العربي المعاصر يشترط-في منهجنا هذا- وعيا بدوائر ثلاث:
أ- البنية الاجتماعية العربية المعاصرة: وهي مجموعة الوحدات الاجتماعية بدءا من الفرد والأسرة والعشيرة والقبيلة والأمة والحزب والنقابة... إلخ، ثم شبكة التفاعلات بين هذه الوحدات، ومنظومة القواعد التي تضبط هذه التفاعلات.
ب- المنظومة القيمية في المجتمع العربي: وهي تعبير عن مثاليات المجتمع العربي التي تشكل مرجعية الحكم على السلوك سياسيا كان أم غير ذلك، ولعل الفارق بين مجتمع وآخر ليس في توافر منظومة قيمية، بل في سلم القيم للمجتمع، فبعض المجتمعات تجعل من الحرية قيمتها العليا، وتخضع بقية القيم (المساواة، العدالة.. إلخ) للقيمة العليا، بينما هناك من يجعل العدالة هي القيمة العليا (كأغلب الحضارات الدينية) ليخضع لها بقية القيم.. وهكذا.
ج- تحديد المفاهيم المركزية والمفاهيم التابعة في بنية الخطاب العربي السياسي المعاصر، وهو ما يستدعي تعيين حدود الخطاب السياسي في أدبيات المجتمع العربي.
1- مفهوم السلطة:
الفارق بين الفكر الغربي والفكر العربي في السياسة أن الفكر الغربي يحاول بناء خطاب يتحرر تدريجيا من سلطة "السلطة" كمفهوم مركزي (التعددية، القطاع الخاص، المجتمع المدني، العولمة، النظم الإقليمية، الانتخاب، الإنسان)، بينما يتركز الفكر العربي على خدمة "سلطة السلطة"([xv])، واعتقد أن المشكلة تكمن في علاقة كل من المجتمعين بالميتافيزيقيا التي انعكست بتحرر من أسرها حد الفوضى في الفكر الغربي، مقابل ارتهان لها في الطرف العربي حد "الرهبة". وهو ما يتضح في أن المفكرين العرب الليبراليين أو الماركسيين يقولون في جلساتهم الخاصة عند مناقشة الدين خطابا أكثر وضوحا مما يقولونه في جلساتهم العامة أو كتاباتهم، وهو ما يعني إنتاج خطاب متداول يقترب من القصد دون بلوغه.. ولعل ترك ذلك للتأويل ليس مفصولا عن "خطاب التأويل في التراث الإسلامي العربي"، والخوف من سلطة المجتمع، وهو ما يجعل الخطاب السياسي العربي محشوراً بين ضاغطين هما السلطة السياسية والسلطة الاجتماعية، فهو أقرب للنص الديني القابل للتأويل كما سنوضح لاحقا.
إن ابرز سمات المجتمع الإنساني المعاصر هو "تآكل مكانة السلطة" بكل أشكالها، فالسلطة في نهاية المطاف ليست إلا "مجموعة قواعد لتحديد السلوك الفعلي أو اللفظي ضمن ظرف اجتماعي يكره الأفراد أو يقنعهم بشكل أو آخر على الالتزام بها"، ويبدو لي أن درجة الالتزام بقواعد اللغة (Grammar) لم تعد بتلك الأهمية لا سيما في الخطاب السياسي (انظر الخطابات السياسية والمقالات الصحفية.. إلخ)، كما أن الالتزام بقواعد اللباس أضحت أقل تشبثا بالطقوس التقليدية، ومهابة المعلم والأب وشيخ القبيلة ليست على القدر نفسه، وهو ما يجعل السلطة السياسية في غير منأى عن ذلك كله (تقليص مدة الحاكم أو عدد مرات حكمه أو مدى صلاحياته... إلخ)، فديكتاتور السلطة السياسية ليس إلا نتاج شبكة ديكتاتوريات صغيرة في النسيج الاجتماعي الذي يتسنمه، ولكل منها نظام معرفي يسندها، فإن تهلهل ذالك النسيج تراخت قدرة الديكتاتور.
ونظرا للتحولات الكبرى في العالم خلال القرن الماضي والحالي، وهي تحولات لا يتسع المقام للخوض في تفاصيلها، فإنني أرى أن البعد التقني وتطوره المتسارع عزز إحساس الفرد "بسيادته وذاتيته"، فانعكس ذلك على مساحة إحساسه بالحرية طالما أنه منتج لتلك التقنية، لكن مستهلك التقنية يبقى غير قادر على تحسس آثارها على منظومته القيمية، فيبقى يعاني بين "خطاب غير تقني" ينتجه، ومعايشة للتقنية في كل تفاصيل حياته اليومية.
2- تغليب فكرة "التوفيق على الصراع" بين المتناقضات في تفسير ظاهرة التقدم والتطور:
أزعم أن السمة العامة في الفكر الغربي هي اعتبار الصراع أداة تطور ضروري، وان ديالكتيك الحياة لا يتوقف، فالأفق مفتوح لا تأسره أية لحظة، بينما يبدو الخطاب السياسي العربي قائما على نظرة ميتافيزيقية هي أن التوفيق بين المتناقضات هو المدخل للتطور، ويكفي أن نشير في الفكر السياسي العربي المعاصر إلى ثلاثة نماذج للخطاب السياسي العربي، أولها فكرة التعادلية عند علال الفاسي في المغرب العربي، التي تقوم على إمكانية تحقيق مجتمع تتعادل فيه القيم التاريخية الكبرى في نفس اللحظة ونفس المكان، وهي العدالة والمساواة والحرية، رغم أننا لا نجد نموذجا في التاريخ الإنساني كله تعادلت فيه القيم الثلاث، ويبشرنا محمد عبده بنموذج ثان وهو نموذج المستبد العادل، أي قوة قاهرة لا تقيدها إلا قيودها هي، ونطمئن لها لتحقيق العدل، بينما حاول الخطاب القومي العربي أن يقيم التطور على ساقين هما القومية والدين رغم التناحر بينهما في التاريخ العربي ذاته (صراع العرب مع الفرس والترك وظاهرة الشعوبية.. إلخ)، وفي الناصرية "تذويب الفوارق بين الطبقات" من خلال تحالف "قوى الشعب".. إلخ، وتبدو هذه الإشكالية في العلاقة بين العروبة والإسلام، فمع وجود تناقض بينهما (لأيهما الأولوية)، ورغم جذورها التي تمتد في التاريخ العربي الإسلامي لظاهرة الشعوبية، فإنها تجددت في الدولة العثمانية والرغبة في الاستقلال عنها([xvi]).
ومن بين المفاهيم التي تظهر وتختفي في الخطاب العربي مفهوم "التسامح"، فهو يبدو في مظهره الخارجي تعبيرا عن نزعة أخلاقية تقوم على غض الطرف عن أخطاء الآخرين أو كظم الغيظ من هفواتهم، لكنه يستر بعدا غير أخلاقي عند نقله للفضاء السياسي، إذ إنه يتضمن التقرير المسبق بأن الأخر غير ذي حق في قوله أو فعله ولكنني سأتجاوز له عن دونيته، إنه حكم معياري مسبق يفترض تنازلا عن حق"لم يثبت بعد"، إن التسامح في السياق الزمني السياسي المعاصر الذي طغى فيه يعني التوفيق بين الحق العربي في مواجهة إسرائيل وحلفائها وبين القوة للآخرين، إنه توفيق لا يمكن إدراك دلالاته بعيدا عن كونه تعبيرا عن الضعف العربي وليس "الأخلاق" العربية.
وتتضح عملية التوفيق في فكرة "الوحدة"؛ إذ يحتل مفهوم "الوحدة" مكانة مركزية في الخطاب السياسي العربي، ويمتد المفهوم للسلطة السياسية بواحدية الحاكم، وواحدية الأمة، لكن الواقع لا يتناغم مع هذا المنحى، إذ إن تركيز الخطاب على الوحدة لا يدل على "وعي" بمقدار ما هو ضِيْق بـ"التشرذم" التاريخي في التاريخ العربي، وهو ما يعزز فكرة "الصبغة الميتافيزيقية"، وهو ما سيتضح لاحقا.
3- مفهوم الدولة:
عند النظر في تسميات الدول التاريخية خارج نطاق التجربة الإسلامية، نجد أن اسم الدولة ارتبط بالمكان أو القومية (الإمبراطورية الفارسية، الرومانية، البريطانية، الأثينية، الفرنسية، السوفييتية... إلخ) بينما نجد شخصنة الدولة في الجزء الأطول من تاريخ التجربة العربية الإسلامية (الدولة الراشدة، الأموية، العباسية، العثمانية، وفي الوقت الحالي السعودية، الهاشمية)، وهو أمر واضح لدى المؤرخين الإسلاميين، فابن خلدون يتحدث عن "دولة بني العباس" حتى لو عنى بها "السلطة أو الحكومة، مما يعني أن هناك خلطا بين العقار(real estate) والدولة(state) في الخطاب السياسي العربي إلى حد يقترب من مفهوم "المَضارَب" في خطاب البداوة العربية.
4- سطوة التاريخ:
لعل حضور التاريخ في الخطاب السياسي العربي المعاصر يبرز بشكل جليّ في مفهوم "الثوابت"، وهي تعني"القيم والعقائد والنظم المحددة التي تأخذ صورة مكتملة ونهائية وغير قابلة للتطور والتجديد، وتعلو فوق الأزمان والبيئات المرتبطة بالإنسان حيث وجد وأنّى وجد"، وينظر إلى هذه "الثوابت باعتبارها قيماً موضوعية ومستقلة عن كل اهتمام شخصي أو ثقافي"، وما على الإنسان حيالها إلا أن يلتزم بها ويصوغ سلوكياته وفقاً لمقتضياتها"([xvii])، فإذا أخذنا بهذا التعريف وقمنا بعملية مسح للخطاب السياسي العربي بدا لنا أن أغلب مفاهيم الظاهرة السياسية تقع في دائرة "الثوابت" سواء الوحدة أم القومية أم الوطن أم الدين أم الطبقة أم اللغة أم الحزب أم الشعب أم الأمة، وبكيفية لا يبقى فيها للمتغير مكان، وهو ما نجده في أدبيات الأحزاب العربية كلها، ولو تباينت توظيفات هذه المفاهيم إلا أنها تقدم في هذه الخطابات على أنها "ثوابت".
ويبدو لي أن طغيان أدبيات الثوابت هي استمرار لمنظور ميتافيزيقي يقوم على "ثوابت مقدسة"، فإما أن تقبلها أو تقدم "ثوابت مقابلة لها وموازية".
5- الإحساس بالدونية تجاه الفكر الغربي:
فعند التمعن في الخطاب السياسي العربي نجد العلمانيين العرب أسرى الشكل والمضمون للخطاب السياسي الغربي، لكنهم يقرون-على استحياء أحيانا-بتباين البيئة الحاضنة للخطاب الغربي عن البيئة العربية، فلا هم قادرون على إنتاج خطاب موائم للبيئة، ولا هم قادرون على التحلل من الانجذاب لبريق الخطاب الغربي، كما أن عقدة النقص لدى هذا الخطاب أنه لم يجد الحامل الاجتماعي له، فبقي محشورا في "ركن النخبة" من المجتمع، أما التراثيون في الخطاب السياسي فهم عصابيون في تعاملهم مع الفكر الغربي نتيجة إحساس عميق بقسوة الواقع المؤكد لغلبة الغرب وتفوقه عليهم، وأنه ينازعهم الأنصار في عقر دارهم.
وتتجلى أحاسيس الدونية في مفهوم متكرر في الخطاب السياسي العربي وهو مفهوم "الخصوصية"، الذي يعني التحوط من توظيف مفاهيم فكرية معينة لكونها "منتجاً خارجياً" لا يتسق وخصوصية مجتمعاتنا، كما أنها-هذه المفاهيم- قد تطوي في داخلها مقدمات الهيمنة.
ويقوم مفهوم الخصوصية على افتراض مباشر أو غير مباشر بأن ثقافة المجتمع تحمل خصائص لا يمسها التغيير (الثوابت التي أشرنا لها)، وهذه النظرة اللاتاريخية تشيد جدرانا عالية بين البنى الثقافية المختلفة فلا يؤثر بعضها ببعض بل لا تطل على شرفات بعضها.
ويمكن اعتبار أنور عبدالملك الأكثر حذرا في تناول موضوع الخصوصية، حيث حدد دلالتها من خلال مكوناتها التالية) :[xviii])
1- التركيب الداخلي لتصور الخصوصية: الذي وصفه بالمربع التكويني المكون من:
(أ) تمكين الحياة الاجتماعية من التحقق والثبات؛ أي مستوى إنتاج حاجيات الحياة المادية (مستوى الاقتصاد).
[i]1 - من الضروري التنبه لتعدد المصطلحات في هذا المقام، فثمة قدر من الارتباك في أدبيات الموضوع وعدم استقرار بين الباحثين حول التعبير الأكثر تعبيرا والأكثر دقة، إذ نجد تداخلا كبيرا واستعمالا متباينا لمصطلحات مثل: الخطاب، النص، اللغة، الكلام، اللسان..
[ii] -Zellis S.Harris- Discourse Analysis,Language,Vol.28,no.1,Jan-Mar.1952,pp.1-30.p.1,
[iii]3 - ثمة نقاش حاد بين الباحثين السياسيين حول جدوى وحدود توظيف تحليل الخطاب السياسي، سواء في العلوم السياسية أl العلاقات الدولية: للتفاصيل انظر:
- DAHLMAN, C. T., and BRUNN, S. D., 'Reading Geopolitics Beyond the State: Organisational Discourse in Response to 11 September', Geopolitics, 8 (3), 2003, pp. 253-280
- Howarth, D. and Torfing, J. (eds.) Discourse Theory in European Politics: Identity, Policy and Governance, Basingstoke, Palgrave Macmillan,2004. pp. 316-349.
- MILLIKEN, J., 'The Study of Discourse in International Relations: A Critique of Research and Methods', European Journal of International Relations, 5 (2), 1999, pp. 225-254
- MÜLLER, M., , 'Reconsidering the Concept of Discourse in the Field of Critical Geopolitics: Towards Discourse as Language and Practice', Political Geography, 27 (3), 2008pp. 322-338
-Martin Müller-Doing discourse analysis in Critical Geopolitics.
[iv] - Blanca Camps-Febrer-Political Humor as a confrontational tool against the Syrian regime, A study case: Syria, 15th March 2011 – 15th May 2012 -Institut Català Internacional per la Pau,Barcelona, December 2012.pp.19-39
[vi] -Paul Chilton-Analysing Political Discourse :Theory and Practice,Routledge,NY.2004.pp.194-205
[vii] - Nawaf Obiedat-The presentation of Thematic Structure in the Translation of English and Arabic Political Discourse, Ph.D Theses ,Durham University,1994.pp.605-606
[ix]- Teun A. van Dijk-Ideology and discourse: A Multidisciplinary Introduction, Universitat Oberta de Catalunya,2000, pp.42-61
10[x] - تقوم النظرية البنائية الاجتماعية على فكرة مركزية مؤداها اعتبار النص منتجا اجتماعيا أنتجه أفراد ضمن سياقات اجتماعية معينة، ويتم الاستناد لهذا النص كأداة للتفسير من ناحية وتقديم الذات للآخرين من ناحية أخرى.
[xi] 11- ميشيل دون- الديمقراطية في الخطاب السياسي المصري المعاصر، ترجمة عماد عبداللطيف، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2011.
[xii] 12- نقصد بالميتافيزيقيا المعنى الذي استخدمه "كانت" وهو الإدراك الذي يكون قبليا سابقا على التجربة. وقد اتهم جلال أمين الخطاب الاقتصادي العربي بأنه "تراثي ميتافيزيقي". انظر: جلال أمين: نحو تفسير جديد لأزمة الاقتصاد والمجتمع في مصر، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1989.
[xiii] 13- حول مفهوم التوفيق في الفلسفة السياسية، يميل الباحثون إلى أنه مفهوم ضعيف في التقاليد الفلسفية الغربية، ورغم إشارات عابرة لدى هوبز (القانون السادس: قانون العفو، والقانون الخامس عشر: قانون الوسطاء)، وإشارات لدى هيجل في فلسفة الحق حول الحرية الفردية وتحقيقها من خلال التوفيق بينها وبين الدولة، فإن جون راولز (John Rawls) في نظرية العدالة كان الأكثر عناية بهذا المفهوم، لكن ما يميزه عن المصالحة الذهنية أنه "أداتي"، أي يعنى بالكيفية التي يتم فيها تحقيق التوافق بين المتناقضات. انظر التفاصيل في :
Paulin Manwelo SJ-The Theme of Reconciliation in Political Philosophy.
http://www.sjweb.info/documents/sjs/pjnewarticles/103-1-02ENG.pdf
14[xiv] - حول مسألة ضعف الفكر السياسي في التراث العربي الإسلامي: انظر علي عبد الرازق- الإسلام وأصول الحكم، ط3، مطبعة مصر، القاهرة، 1925، ص.22-31.
[xv] 15- عابد أنصاري-تحليل الخطاب السياسي العربي "الاستبداد والهيمنة وغياب الرؤية الشاملة"، دار الكتاب الحديث، 2009.
[xvi] 16- للتفاصيل حول هذه الثنائية أنظر:
- ميشيل عفلق: في سبيل البعث، دار الطليعة، بيروت، 1959، ص.26.
- منيف الرزاز: دراسات في القومية: دار الطليعة، بيروت، 1960. ص21
- محمد أحمد خلف الله: عروبة الإسلام، مجلة المستقبل العربي، السنة.1، العدد 2، 1978، ص29.
17[xvii] -محمد أمزيان- منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، هيرندن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1980، ص354-355
[xviii] 18- أنور عبد الملك، من أجل استراتيجية حضارية، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2005.ص.123-183.